صور في ذاكرة متعبة /ص/60
تمر الأيام متشابهات ، ضجر وملل ، فراغ رهيب ،رتابة في كل شي ، أصبح واقعنا الذي نعيش لا لون ولا طعم له ، نستهلك أيامنا نسحبها من رصيد العمر بليدة ركيكة يستوطنها الفراغ والصمت الرهيب ، نتكأ على تراكمات الماضي ونبكي زمننا الجميل الذي ولى وراح ،بطمأنينته وحلم رائع بديع ،بأيام صبى وطفولة بريئة وشباب مندفع منطلق يعانق السحاب ، وحكايات و
ظحكات صافية أثثنا بها سمرنا وجلساتتا ،كانت تأخذنا إلى أفق زاهي بديع وإنتظارات من آت خلناه يشبهنا ، ببساطتنا بأشيائنا المتواضعة ، بأمانينا صنعنا قصورا فوق السحاب وزرعنا المدى زهورا و حدائقا وأعشابا ، وعانقنا القمر وشاركتنا أفراحنا وحزننا الجميل.
واليوم إثاقلت خطايا وسنين عمري ، بهتت مساربي وغزت شيبات رأسي ، وتنكر لي الأفق و وإستحال سرابا ، أشجار السرو والصفصاف على الجنبات يحيين ركبي الخائب وأنا أجر هزائمي ووزر الخيبات ، أهرول ،أركض ،أجري ، نسمات شتوية باردة ورذاذ المطر يدغدغ وجهي الصامت ، في مكان ما من ذاكرتي، وعلى بقعة ما من الأرض حيث كانت صرختي الأولى في هذه الحياة ، كان أبي الراحل يداوم المكوث فيها ،جلست حيث كان يجلس ، يتمتم وحده يصنع لوحدته هيبة ووقارا ، عصاه بيساره والمصحف بيمناه، يقرأ بتأن وتعتعة ، رجعت ذاكرتي وذكرياتي أدراجها ، ووجدتني طفلا ، تحسست المكان إستصرخت الزمان ، بدا لي كوخنا القديم على يميني ، وكل أشجار السدر المحيطة ، بعثت من جديد ، رأيتها تلوح بأغصانها الخضراء ، تبكي بأنين صامت ، فتشت في ركن الكوخ ، وجدت أمي الراحلة الحاضرة (رحمك الله يا أماه) الأيقونة الصامدة تروح وتجيئ في باحته ، تصنع كبريائي وفرحي، وجدت الرحى، وال(البابور) وال(قازة) ومحفظتي السوداء وكتاب إقرأ وطبشوراتي واللوحة وال(بلومة) الحمراء ومحبرتي العتيقة ، صافحوني ببرود وكأنهم نسونني أو لم يتذكرونني ، بقيت بينهم لا أدري كم من الوقت ، أستلطفهم وأستجديهم أن يسعفو ذاكرتي المتعبة وأن يلتحقوا بي لنقوم بمراسم جنائز أحزاني .
الرذاذ تضاعفت حباته وأصبح مطرا تهطل ، السحب تتواتر قاتمة ،أسراب من الطيور تمر سراعا ، الريح شمالية قارسة ، ضاعت الصور وتكسرت الأشكال ، قمت من ماضيا ومن مكاني ، أسرعت الخطا إلى المنزل ، جلبة الصغار و لهوهم، وفرحتهم بسمرهم وبرائتهم ، وزوجة تهيأ عشاءنا البسيط ومن المأذنة البعيدة يأتينا آذان المغرب أن الله أكبر الله أكبر
سالم عكروتي (أبو عيسى)
تونس في 26 /1/2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق